الذائع هنا في تعز (جنوب غربي اليمن)، أن المسلحين من الكبار يحاذرون التحرك في مربعات المدينة كافة؛ توجسا من اجتياز حدود " جيو جغرافية" رسمتها خصومات داخلية، ما قد يودي بهم إلى غيلة صديقة، أو وقوعهم في زنازن رفاق المعركة على أهون تقدير.
يتكرر ذلك منذ نحو ثلاثة أعوام و بشكل واضح للعيان، نتج عنه إلى قبل أيام 250 قتيل ومختطفين آخرين، بعد أن مُزقت المدينة إلى مربعات عسكرية لصالح بعض الأطراف الداخلية، أشهرَت البنادق تجاه بعضها البعض، في وقت تصطف فيه القوات ذاتها على طول حواف المحافظة، لأجل صد قوات الحوثيين، المحاصرة لها مذ أربع سنوات.
لكن تكشف مؤخرا بإن ذلك التجوال الحذر ما عاد لزاما على الكبار وحدهم فحسب، بل والأطفال كذلك صار عليهم التجول في المدينة وفق خطى محسوبة مسبقا؛ فهم الآخرين بدورهم وضعوا حدودا لحواريهم يمنع على أطفال الحواري الأخرى اجتيازها، ثم حملوا الأسلحة على أكتافهم النحيلة وتخندقوا في الأزقة والشوارع الخلفية، حتى أن مامن أحد مشى راجلا في الأحياء خلال أيام العيد إلا وشاهد جموعا مسلحة من الصبية وهم يخوضون معارك ضارية ضد بعضهم، ليتم، على إثرها، نقل مصابين إلى مستشفيات المدينة وأعينهم تتدفق بالدماء.!
يحدث ذلك في مشهد يحاكي ما تعيشه مدينة تعز من اقتتال فعلي بين أطراف مسلحة داخلية، فقط مع اختلاف في نوع الذخيرة المستعملة، بل ويرى مراقبون بأن لا فروق واضحة في الحالتين؛ فكلاهما بطريقة وأخرى مجرد لعبة سيئة يمارسها الكبار والصغار عن سوء تدبير.
وفي قراءة سيكولوجية لظاهرة تفضيل أطفال المدينة "لمسدسات الخرز" على باقي الألعاب، يقول د.محمد حاتم-رئيس قسم علم النفس، جامعة تعز - لوكالة الأنباء ديبريفر: ” بإن ذلك يعود إلى رغبة الصغار في تقليد الكبار، ومحاكاة نشاطهم اليومي ” معتبرا ذلك سلوكا بديهيا ” كون اليمن تعيش حالة حرب وغالبية المواطنين يحملون السلاح وذلك ما يشاهده الصغار في حاراتهم ومناطقهم، وهو ما يتعرضون له يوميا عبر شاشات التلفاز؛ فمن الطبيعي أن يستهوي صغار السن حمل السلاح والانقسام إلى فرق متصارعة ”.
واستقبلت مستشفيات المدينة خلال الأيام الماضية من العيد ما يربو عن 35 حالة إصابة، بحسب تصريح طبي لوسائل إعلام، تنوعت بين فقئ للعين و تضررها برتوش بليغة، وأشار التصريح إلى أن المصابين جميعهم ممن لا تتجاوز أعمارهم سن الثانية عشرة.
الجدير بالذكر أن ظاهرة انتشار "مسدسات الخرز" بين الأطفال لم تقتصر في أضرارها على مجرد فقد الأطفال لإحدى أعينهم أو كلاهما، لقد تعدى ذلك إلى مرافعات جنائية ومنازعات أسرية حادة، ففي رواية تداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي على نطاق واسع، يُذكر ” أن طفلا ممن يحملون مسدسات الخرز فقأ عين طفل آخر في حي مستشفى الثورة(شرق المدينة)، ما أدى إلى احتجاز والد الجاني في قسم شرطة حي الثورة”. وذهبت الرواية إلى أن والد الطفل المجني عليه يرفض أي مصالحة أو تحكيم، مطالبا فقط بعين بدلا عن عين ابنه، مالم سيكون على الأول القبوع في السجن مدة أطول.
حرب موعودة
مضافا إلى إتيانها على إنسان البلد وبنيته التحتية، الحرب الدائرة في اليمن تضرب لها مع المستقبل موعدا مؤجلا على ما يبدو، فهي إن توقفت على الأرض في القريب العاجل؛ لن تلبث و تندلع كرة أخرى في أية لحظة، إذ إنها تركت خلفها عوامل كثيرة تؤدي إلى انتعاشها ثانية، أبرزها بلا شك، إفراز جيل يشعر حيال الحرب بقليل من الألفة، ويلمس في حمل السلاح نوعا من التباهي والتفخيم، كما أنه يجد الدماء والمعارك مواضيع صالحة للتندر .!
النزوع الشديد لدى الصغار إلى اللعب بالأسلحة مسدسات الخرز يشي، إلى حد ما، باستعدادهم الكامن للقتل، فضلا عن أمور سلبية أخرى مترتبة على ذاك التفضيل” فاللعب-بحسب د. محمد حاتم-له تأثير كبير في تكوين شخصية الطفل، بالتالي الأطفال الذين يمارسون اللعب بالسلاح تظهر لديهم آثار مستقبلية منها العدوانية، العزوف عن التعليم، العنف والاستهانة بالجريمة وغيرها مما يؤثر سلبا في بناء المجتمع.”
وأمام اتساع ظاهرة انتشار "مسدسات الخرز" بين الأطفال في المدينة وما نجم عنها من حالات فقد للبصر، نفذت شرطة تعز، الأحد الماضي، حملة أمنية لمصادرة اللعبة الخطرة من المحال التجارية والأطفال في المدينة، وساندت الحملة مبادرات شعبية قادها عقال الحارات "عمدة الأحياء"، الشيء الذي ساهم بشكل ملاحظ في تحجيم الظاهرة داخل المدينة.
وعبر مواطنون لوكالة الأنباء ”ديبريفر” عن سعادتهم من مصادرة اللعبة وتهشيمها نظرا للأضرار السيئة المترتبة على اقتناء الأطفال لها، في الأثناء، حبذوا لو يعلن عن حملة أمنية موازية لمصادر الأسلحة الحقيقة من الخارجين عن القانون، الذين يتسببون من وقت إلى آخر في إقلاق الأمن وترويع الساكنين.
أنسنة الجيل
بدا واضحا أن الضرر الذي لحق بأطفال تعز من الحرب، لم يتوقف عند القتل والتشرد وتعرضهم لقائمة أوبئة طويلة، بل تعدى ذلك إلى ما هو أفظع بكثير، فحتى الذين حالفهم الحظ ولم تصيبهم المعارك بضرر جسدي، بطريقة ما تعمدت الحرب أذيتهم؛ إذ أفرغتهم مما يفترض أن يكونوا عليه من براءة لتملأهم بالشر، لدرجة أنهم تحولوا إلى مسوخ تنتظر الظروف الملائمة لتكشف عن وجهها المريع.
د.محمد حاتم-رئيس قسم علم النفس جامعة تعز - يتحدث ل”ديبريفر” بأن التدابير اللازمة حيال ذلك تتمثل في: ”قيام مجموعات الدعم النفسي بالنزول الميداني إلى الأحياء والمناطق السكنية مجموعة الألعاب المفضلة منها (المسحات الصديقة) التي تقوم بها بعض المؤسسات النفسية وتحويل اتجاهات الأطفال من لعب السلاح إلى لعب أخري ليعودوا إلى مسارهم الصحيح ”.
في الواقع أضحى من الضرورة بمكان إعادة أنسنة جيل الحرب بأكمله بالتوازي مع عمليات إعادة إعمار البنى التحتية، ذلك لتقليل احتمال نشوب حروب أخرى مستقبلا على الأقل.