ذوي الحسابات البنكية المتخمة و رجال الأعمال هم بالعادة أكثر الناس متابعة لتقلبات أسعار العملات، لكن مؤخراً غدت تلك قاعدة مكسورة في تعز، حيث الفقراء فيها أنشط من غيرهم في رصد تأرجح أسعار الصرف، لدرجة أنه لا يمضي نهار إلا ويسألون فيه "كم سعر الدولار اليوم..؟" هم يقومون بهذا لا لشيء؛ إنما لأن مصادفة مثيرة جعلت توفر غذائهم رهنا لهكذا مضاربة يومية، لا سيما في رمضان، الشهر الذي اقترن اسمه بشراء الأطعمة أكثر من أي فعل آخر.!
وككل عام رافق شهر رمضان الجاري ارتفاع أسعار المواد الغذائية في اليمن، لكن ما يجعل رمضان هذه السنة، وثلاثة أخرى مضت، مختلف عما قبل سنوات وفي تعز على وجه التدقيق ، اجتماع عوامل عدة لها دور في إلهاب ثمن البضائع بصورة مباشرة ،و تتمثل في حصار الحوثيين للمدينة منذ أعوام أربعة متعاقبة ، فضلا عن جشع التجار وتدهور سعر العملة المحلية مقابل الدولار؛ الأسباب التي ترتب عنها ،بالضرورة ، غلاء غير مسبوق للمنتجات الغذائية الضرورية، كالقمح، والأرز، والخضروات وغيرها، يصل إلى ما يزيد عن200في المائة.
لذا وأمام وضع اقتصادي مشتعل على ذلك النحو صار بديهي أن تجد أسرا بالمئات عاجزة كليا عن توفير ثمن كيس قمح، أو تعبئة أسطوانة غاز منزلي، أو حتى ثمن كيلو بطاطاس على الأقل، خاصة في مدينة منسية مثل تعز لا يتجاوز متوسط دخل الفرد فيها دولارا ونصف الدولار ،نتيجة تعاظم نسبة البطالة وتوقف صرف رواتب موظفيها.
منسية خلف السياج
يحظى جانب تعز الحزين بتغطية إعلامية كبيرة، بل لا يستبعد أن تكون جميع ألآمها الصغيرة موثقة، ذلك لا لأجل المدينة ذاتها، إنما لأن مأساتها على درجة كبيرة من الثقل، ويجري منذ أربعة أعوام توظيفها في أمور لا تقرب لنصرة المدينة بصلة ولا تسعى إلى تحسين وضعها.
الصحفي مفيد الغيلاني يذهب في حديثه لوكالة "ديبريفر" بالقول: "إن دول التحالف العربي تتعمد إبقاء تعز على ماهي عليه من بؤس، إذ تضمن بذلك إثقال صفحات الحوثيين باستمرار جرائمهم بحق إنسان المحافظة".
ويشدد الغيلاني على أن تعز، فيما عدا ذلك، فمنسية ولا يكترث لحالها أحد، مضيفا، إن كان الحال يمر على تلك الشاكلة منذ أربع سنوات فليس رمضان، هذا العام، استثناء من ذلك، إذ ما تزال المدينة مخنوقة بالحصار، ولم يقدم لها جزء يسير من المساعدات".
ويتسبب حصار الحوثيين لمدينة تعز بزيادة تكاليف إيصال البضائع من خارج المحافظة، وهي التكلفة التي يجد المواطن نفسه مضطرا إلى دفعها من خلال شراء احتياجاته الرمضانية بثمن مضاعف على السعر الرسمي.
مهيوب الشرعبي صاحب محلات بيع مواد غذائية بنظام الجملة، تحدث لوكالة<ديبريفر> بإن أجرة استيراد بضائع من صنعاء أو عدن لا تقل عن ٢٠٠ألف ريال، في الوقت الحالي، أي ما يقارب ٤٠٠ دولار أمريكي، وهو ضعف ما كان يدفعه مهيوب سابقا، حسب قوله، ناهيك عن الضرائب والمبالغ المالية التي تؤخذ منه في نقاط التفتيش المتواجدة على طول الطريق.
وفيما إذا كان هناك رقابة حكومية تفرض على التجار البيع بسعر رسمي، أكد الشرعبي للوكالة: عدم وجود ذلك، لافتا إلى أنه في حال أجبرنا على البيع بسعر دون أخذ تكاليف الطريق بالاعتبار، فأنني سأتوقف عن التجارة، لأنني حينها خاسر بكل تأكيد".
الشرعية، ومتلازمة الجوع والخوف
لعل تعز في أسوء حالتها الآن، إذ أن أي سوء أكثر من ترافق الجوع والهلع، فبينما يعجز المواطن البسيط عن تأمين وجبة عشاء لأسرته ،أجهزة أمن المدينة هي الأخرى تخفق في خلق جو آمن للمواطنين، وبين وقت وآخر يندلع اشتباك مفاجئ بين مسلحين في أسواق مزدحمة بالباعة ،والمتسوقين وكذلك المارة ؛ يروح ضحيته أناس أبرياء ليس آخرهم امرأة سقطت ،الأسبوع الماضي، وسط شارع التحرير الأسفل غارقة في دمائها ،كانت قد فرغت من التسوق لتوها.
وأمام حالة الاختلال الأمني تلك، تقول أمل وهي ربة منزل، لوكالة" ديبريفر" :أنها لم تعد تجرؤ على بعث أيا من أطفالها إلى السوق، خشية حدوث تبادل إطلاق نار، الشيء الذي دفعها هي إلى القيام بذلك شخصيا.
ولم تنسى أمل في حديثها للوكالة أن تحمل الحكومة الشرعية ما يحدث لتعز، بدءا بتأخر صرف راتب زوجها المتوفي، وانتهاء بدم أولئك الأبرياء الذين يفارقون الحياة، واحدا تلو الآخر.